رثاء معلم



الحَقُّ نادى فَاِستَجَبتَ وَلَـم تَـزَل      بِالحَـقِّ تَحفِـلُ عِنـدَ كُـلِّ نِـداءِ
اِشرَح حَقائِقَ ما رَأَيتَ وَلَم تَـزَل      أَهـلاً لِشَـرحِ حَقائِـقِ الأَشيـاءِ
ما زِلتَ تَهتِـفُ بِالقَديـمِ وَفَضلِـهِ        حَتّـى حَمَيـتَ أَمانَـةَ القُـدَمـاءِ

تسلقت قمم الحياة قمة قمة وما إن وصلت قمة حتى تراءت لك قمم فواصلت المسير صعدا، ما وهنت عزيمتك ولا ضعفت إرادتك مهما واجهك من تحديات ومصاعب ومتاعب إلى أن وصلت إلى قمة أحاط بها ضباب اللاعودة من كل الجهات نظرت نظرة الواثق المدرك ومشيت نحو الضباب.

لم يكن من الصعب على أحد أن يفهمك ويعرفك فأنت قد كنت ممن قيل عنهم، "سماؤهم في وجوههم،" وقد كنت كتابا واضح الأحرف، بسيط الكلمات وسهل العبارات، معرفتك وفهمك لم تحتاجا معجما ولا تفسيرا ولم يكن فيك من أحجيات.

عندما وطئت قدماك بلدة عيتنيت، جئتها حاملا حجر الزاوية لمبنى مدرستها من مقالع قريتك، دير الغزال، وكنت أنت نفسك الأساس وحجر زاوية العلم والمعرفة في تلك المدرسة البعيدة، والقرية النائية والمنطقة المميزة والفريدة.

أربعون عاما قضيتها رسول علم ومعرفة في مدرسة مؤسسة أسعد عبود الخيرية، فكنت فيها لكل من فيها المعلم العالم، والأب الحنون، والأخ الودود والصديق الصدوق فأعطيت دون حدود ودون كلل أوملل كل ما لديك في مهنة هي من أصعب المهن على الإطلاق لأنها تعنى ببناء الإنسان وبناء المجتمع وبناء الوطن وقد كنت أفضل من أدى هذا الدور حتى في أصعب الظروف. تلامذتك اليوم ينتشرون في أصقاع العالم كافة وقد برعوا في شتى ميادين العلم والمعرفة والتكنولوجيا، يتميزون بكفاءتهم العالية وأخلاقهم الحميدة، وبشعور كبير من الإمتنان والمحبة لمن علمهم حرفا فصير كلا منهم حرا وليس عبدا على الإطلاق.

كان التاريخ وكانت الجغرافيا والأرقام تملأ ذاكرتك المميزة الفريدة، فنادرا ما سئلت عن حدث أو موقع أو حتى رقم هاتف أو سيارة إلا وكان جوابك جاهزا وكنت أنت حاضرا لتستفيض بالشرح عما سئلت، فجن جنون الألزهايمر، عدو الذاكرة، من هذه الذاكرة العجيبة المميزة ووضع نصب عينيه هدف نسفها والإنتقام من قدراتها فأدركها ولكن في سن الثمانين بعد أن كانت قد أعطت وأعطت الكثير الكثير.

أحببت عيتنيت حب من ولد من ثراها وكنت حريصا عليها وعلى كل حبة من ترابها وكل شخص من أبنائها الحرص الشديد، فزرعت أرضها شجرا، كما زرعتها علما ومعرفة، ورويته عرقا ودما وكان أكثر ما تحب، أن تجلس بين شجيرات غرستها، تتأمل نبتك الصالح الذي نمى بالعناية، فأعطى ثمرا لذيذا ستأكل منه حتى الأجيال القادمة.

فلسفتك في الحياة لم تكن معقدة، العفوية والوداعة والتسامح والمحبة والمساعدة للقريب والبعيد للصديق وحتى لغير الصديق، وشعارك في الحياة كان، "يا الله، إجعلني فريسة المفترس ولا تجعل الأرنب فريستي."

أستاذنا الكريم، إن العطاء في الحياة سر من أسرار الخلود، سر عرفته وعرفت كيف تجعله نهجا ونمطا لحياتك، فمهما حاول الموت، لن يمحو ذكر من أعطى كل هذا العطاء.

خــلَّفْت فــي الدنيـا بيانًـا خـالدًا      وتــركْت أَجيــالاً مــن الأبنــاءِ
وغـدًا سـيذكرك الزمـانُ, ولـم يَزلْ  للدِّهــرِ إِنصــافٌ وحسـنُ جـزاءِ

القيت في رثاء المعلم والمربي الأستاذ إميل الدبس في بلدة دير الغزال البقاعية بتاريخ 2012/3/11 

No comments:

Post a Comment